فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا} يعني: لا يستيقنون أن اللات والعزى آلهة بالظن، ومعناه أنهم يتركون عبادة الله تعالى وهو الحق، لأنهم يقرون بأن الله خالقهم فيتركون الحق ويتبعون الظن.
{إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا}، يعني: علمهم لا يغني من عذاب الله شيئًا؛ ويقال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} يعني: ما قذف الشيطان في أوهامهم {إَنَّ الظن} يعني: ما قذف الشيطان في أوهامهم لا يستطيعون أن يدفعوا الحق بالباطل.
ويقال: وما يتبع يعني: وما يعمل أكثرهم {إِلاَّ ظَنّا} يظنون في غير يقين وهم الرؤساء، وأما السفلة فيطيعون رؤساءهم {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا}.
{إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من عبادتهم الأصنام وما يقولون من القول المختلق والكذب. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} هم رؤساؤهم.
{إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِ شَيْئًا} في الظن وجهان:
أحدهما: أنه منزلة بين اليقين والشك، وليست يقينًا وليست شكًا.
الثاني: إن الظن ما تردد بين الشك واليقين وكان مرة يقينًا ومرة شكًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} يريد الرؤساء منهم؛ أي ما يتبعون إلا حَدْسًا وتخْريصًا في أنها آلهة وأنها تشفع، ولا حجة معهم.
وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدًا.
{إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئًا} أي من عذاب الله؛ فالحق هو الله.
وقيل {الحق} هنا اليقين؛ أي ليس الظن كاليقين.
وفي هذه الآية دليل على أنه لا يُكْتَفَى بالظن في العقائد.
{إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من الكفر والتكذيب، خرجت مخرج التهديد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} الظاهر أن أكثرهم على بابه، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال:
أربّ يبول الثعلبان برأسه ** لقد هان من بالت عليه الثعالب

وقيل: المراد بأكثرهم جميعهم، والمعنى: ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظنًا، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم.
والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئًا أي: من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع.
وقيل: وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه.
وقرأ عبد الله: تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتًا والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن، وتقليد الآباء.
وقيل: نزلت في رؤساء اليهود وقريش. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز الأمرِ مَسوقٌ من قِبله تعالى لبيان عدمِ فهمِهم لمضمون ما أفحمهم وألقمهم الحجرَ من البرهان النيّر الموجبِ لاتباع الهادي إلى الحق الناعي عليهم بطلانَ حكمِهم وعدمَ تأثرِهم من ذلك لعدم اهتدائِهم إلى طريق العلم أصلًا أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحارواتِهم {إِلاَّ ظَنّا} واهيًا من غير التفاتٍ إلى فرد من أفراد العِلم فضلًا عن أن يسلُكوا مسالكَ الأدلةِ الصحيحةِ الهادية إلى الحق المبنيةِ على المقدمات اليقينية الحقةِ فيفهموا مضمونَها ويقفوا على صحتها وبُطلانِ ما يخالفها من أحكامهم الباطلةِ فيحصُل التبكيتُ والإلزامُ فالمراد بالاتباع مطلقُ الاعتقادِ الشامل لما يقارن القَبولَ والانقيادَ وما لا يقارنه، وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكونَ لهم في أثنائه اتباعٌ لفرد من أفراد العلمِ والتفاتٌ إليه، ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم الإشعارُ بأن بعضَهم قد يتبعون العلم فيقفون على حقية التوحيدِ وبطلانِ الشركِ لا يقبلونه مكابرةً وعنادًا فيحصل بالنسبة إليهم التأثرُ من البرهان المزبورِ وإن لم يُظهروه وكونُهم أشدَّ كفرًا وأكثرَ عذابًا من الفريق الأولِ لا يقدح فيما يُفهم من فحوى الكلامِ عُرفًا من كون أولئك أسوأَ حالًا من غيرهم، إذ المعتبرُ سوءُ الحالِ من حيث الفهمُ والإدراكُ لا من حيث الكفرُ والعذابُ، أو ما يتبع أكثرُهم مدةَ عمرِهم إلا ظنًا ولا يتركونه أبدًا، فإن حرفَ النفي الداخلِ على المضارع يُفيد استمرارَ النفي بحسب المقامِ فالمرادُ بالاتباع حينئذٍ هو الإذعانُ والانقيادُ والقصرُ باعتبار الزمان، ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم مع مشاركة المعاندين لهم في ذلك التلويحُ بما سيكون من بعضهم من اتباع الحقِّ والتوبةِ كما سيأتي هذا وقد قيل: المعنى وما يتبع أكثرُهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنًا غيرَ مستندٍ إلى برهان عندهم وقيل: وما يتبع أكثرُهم في قولهم للأصنام: إنها آلهةٌ إلا ظنًا، والمرادُ بالأكثر الجميعُ فتأمل. وقيل: الضميرُ في أكثرهم للناس فلا حاجةَ إلى التكلف {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق} من العلم اليقينيِّ والاعتقادِ الصحيحِ المطابقِ للواقع {شَيْئًا} من الإغناء، ويجوز أن يكون مفعولًا به، ومن الحق حالًا فيه والجملةُ استئنافٌ ببيان شأنِ الظنِّ وبُطلانِه، وفيه دِلالةٌ على وجوب العلمِ في الأصول وعدمِ جوازِ الاكتفاءِ بالتقليد {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وعيدٌ لهم على أفعالهم القبيحةِ فيندرج تحتها ما حُكي عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعةِ والاتباعِ للظنون الفاسدةِ اندراجًا أوليًا، وقرئ تفعلون بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا} كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنًا واهيًا مستند إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يلتفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلًا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم في أثنائه اتباع لفراد من أفراد العلم والتفات إليه.
وتنكير {ظَنّا} للنوعية، وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقيقة التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعناداف، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معاندًا، ولعل النيابة حينئذٍ عن الجميع باعتبار هذا البعض، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظنًا ولا يتركونه أبدًا، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنًا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] وفي قوله:
قليل التشكي في المصيبات حافظ ** من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضًا، ومن الناس من جعل ضمير {أَكْثَرُهُمْ} للناس وحينئذٍ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة {إَنَّ الظن} مطلقًا {لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، والجار متعلق بما قبله {وشيئًا} نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما، ويجوز أن يكون مفعولًا به والجار والمجرور في موضع الحال منه، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه، وفيه دليل لمن قال: إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح، وإنما لم يؤخذ عامًا للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه.
{شَيْئًا إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجًا أوليًا.
وقرئ {تَفْعَلُونَ} بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} عطف على جملة: {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} [يونس: 35] باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلَها، فبعد أن أمر الله رسولَه بأن يحجهم فيما جعلوهم آلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتّباع لظن باطل، أي لوهَم ليس فيه شبهة حق.
والضمير في قوله: {أكثرهم} عائد إلى أصحاب ضمير {شركائكم} [يونس: 35] وضمير {ما لكم كيف تحكمون} [يونس: 35].
وإنما عَمَّهم في ضمائر {شركائِكم} و{ما لَكم كيف تحكمون}، وخصّ بالحكم في اتِّباعهم الظن أكثرَهم، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام.
وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عُقَلاء قليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفًا ولكنهم أظهروا عبادتها تبعًا للهوَى وحفظًا للسيادة بين قومهم.
والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تَخيل، ولكن المقصود هو زيادة الاستدلال على بطلان عبادتها حتى أن من عُبَّادها فريقًا ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها.
وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن.
ففيه إيقاظ لجمهورهم، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطْمئن إليه قلوبهم.
وهذا كقوله الآتي: {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به} [يونس: 40].
والظن: يطلق على مراتب الإدراك، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شك، كما في قوله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة: 45، 46]؛ ويطلق على الاعتقاد المشوب بشك.
ويظهر أنه حقيقة في هذا الثاني وأنه مجاز في الأول لكنه في الأول شائع فصار كالمشترك.
وقد تقدم في سورة البقرة عند الكلام على الآية المذكورة.
ومنه قوله تعالى: {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} في سورة [الأعراف: 66]، وقوله: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} في سورة [براءة: 118].
وقد أطلق مجازًا على الاعتقاد المخطئ، كما في قوله تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] وقول النبي عليه الصلاة والسلام إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.
والظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطئ أو الجهل المركب والتخيلات الباطلة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وقد يطلق على الظن الحصيبي كقوله تعالى: {ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا} [النور: 12] وقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12].
وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء أصول الدين وأصول الفقه.
وهو العلم المستند إلى دليل راجح مع احتمال الخطأ احتمالًا ضعيفًا.
وهذا الظن هو مناط التكليف بفروع الشريعة.
فوجه الجمع بين هذه المتعارضات إعمال كل في مورده اللائق به بحسب مقامات الكلام وسياقه، فمحمل قوله هنا: {إن الظن لا يغني مِن الحق شيئًا} أن العلم المشوب بشك لا يغني شيئًا في إثبات الحق المطلوب وذلك ما يطلب فيه الجزم واليقينُ من العلوم الحاصلة بالدليل العقلي لأن الجزم فيها ممكن لمن أعمل رأيه إعمالًا صائبًا إذ الأدلة العقلية يحصل منها اليقين، فأما ما طريق تحصيله الأدلة الظاهرة التي لا يتأتى اليقين بها في جميع الأحوال فذلك يكتفي فيه بالظن الراجح بعد إعمال النظر وهو ما يسمى بالاجتهاد.
و{ظنًا} منصوب على المفعولية به لـ {يتبع}.
ولما كان الظن يقتضي مظنونًا كان اتباع الظن اتباعًا للمظنون أي يتبعون شيئًا لا دليل عليه إلا الظن، أي الاعتقاد الباطل.
وتنكير {ظنًا} للتحقير، أي ظنًا واهيًا.
ودلت صيغة القصر على أنهم ليسوا في عقائدهم المنافية للتوحيد على شيء من الحق ردًا على اعتقادهم أنهم على الحق.
وجملة: {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} تعليل لما دل عليه القصر من كونهم ليسوا على شيء من الحق فكيف يزعمون أنهم على الحق.
والحق: هو الثابت في نفس الأمر.
والمراد به هنا معرفة الله وصفاته مما دل عليها الدليل العقلي مثل وجوده وحياته، وما دل عليها فعل الله مثلُ العلم والقدرة والإرادة.
و{شيئًا} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي لا يغني شيئًا من الإغناء.
و{مِن} للبدلية، أي عوضًا عن الحق.
وجملة: {إن الله عليم بما يفعلون} استئناف للتهديد بالوعيد. اهـ.

.قال الشعراوي:

وقول الحق سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} [يونس: 36] يفيد أن بعضهم كان يتبع يقينًا؛ لأن مقابل الظن هو اليقين، فالنسب التي تحدث بين الأشياء تربط بين الموضوع والمحمول، أو المحكوم والمحكوم عليه، وهي نسب ذكرناها من قبل، ونذكِّر بها، فهناك شيء أنت تجزم به، وشيء لا تجزم به. وما تجزم به وتُدلِّل عليه هو علم يقين، أما ما لا تستيطع التدليل عليه فليس علم يقين، بل تقليد، كأن يقول الطفل: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
وهذا حق، لكن الطفل لا يستطيع أن يدلل عليه أو أن يقال شيء ومن يقوله جازم به، وهو غير واقع؛ فذلك هو الجهل.
والعلم هو القضية المجزوم بها، وهي واقعة وعليها دليل، على عكس الجهل الذي هو قضية مجزوم بها وليس عليها دليل.
والظن هو تساوي نسبتين في الإيجاب والسلب، بحيث لا تستطيع أن تجزم بأي منهما؛ لأنه إن رجحت كفة كانت قضية مرجوحة، والقضية المرجوحة هي شك أو ظن أو وهم. فالظن هو ترجيح النسب على بعضها. والشك هو تساوي الكفتين.
وقول الحق سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} [يونس: 36] يبين لنا أن الذين كانوا يعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك إما عنادًا رغم علمهم بصدق ما يبلغ عنه، وإما أنهم يعاندون عن غير علم، مصداقًا لقول الحق سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس: 39].
وكان الواحد منهم إذا تمعَّن في البلاغ عن الله تعالى والأدلة عليه، يعلن الإيمان، لكن منهم من تمعن في الأدلة وظل على عناده، والذين اتبعوا الظن إنما اتبعوا ما لا يغني من الحق شيئًا.
لذلك يبيّن لهم الحق سبحانه أنه عليم بخفايا نفوسهم، ويعلم إن كان إنكارهم للإيمان نابعًا من العناد أو من العجز عن استيعاب قضية الإيمان؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36].
إذن: فقد علم الله سبحانه أزلًا أن بعضهم في خبايا نفوسهم يوقنون بقيمة الإيمان، لكنهم يجحدونها، مصداقًا لقول الحق سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى عليم، ولا يخفى عليه أنهم كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبعضهم لم يفهم قيمة الإيمان، ومن علم منهم قيمة الإيمان جحدها، عنادًا واستكبارًا.
يقول الحق سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. اهـ.